تعتريني رغبة جامحة للكتابة! مؤخراً هناك الكثير من الأفكار تطحنُ رأسي، تُحدث في أروقته ضجيجاً دون سابق إنذار، تصيبني بالأرق وتسلبني النوم، لا أجدُ وقتاً لأفصح عنها، أركمها في درج آخر وتستمرّ الحياة، إلى أن وقعت يديّ على روايتين لم أقرأهما متتابعتين بالصدفة. واثقة أنها لم تكن بالصدفة.
لا يهمّ ماذا قرأت، لن يعنيك كثيراً، لكنه قلب موازين عقلي وزادني حيرة إلى حيرتي، في المقابل، حرّك فيّ الحاجة للكتابة، للتعبير ولهذا أنا ممتنة.
ربّما لم تكن الكتب فقط هي السبب، لعلّ كل ما مررتُ به في الآونة الأخيرة كان دليلاً قاد لهذه النهاية؛
كيف نقرؤ الحزن؟ كيف نتعاملُ معه؟
تمرّ علينا مئات الأخبار يومياً عبر مختلف وسائل التواصل، القنوات الإخبارية، الواتس أب، تويتر وحتى تلك الموثّقة بالصور، كم حرّكت فينا؟ نُخبئ تأثرنا خلف أرقام تخفف من وطأة الصدمة، "قُتل عشرة مدنيين وجرح آخرون خلال اشتباكات مع قوّات الأمن"، كم يبدو هذا الخبر عادياً مكرراً في صياغته، لا يعنينا بالتحديد، تفصل بيننا وبينه آلاف الكيلومترات التي تحمينا منه، نرفع نظرنا عن شاشة الجوال، ننظر حولنا، نلتفت، الحمدلله لاشيء هنا! ثم نعود لقراءة الخبر التالي، نمرّ عليه بكل جمود، أو بلسان حالٍ يستعيذ مما نقرأ، ننسى عمداً كلما كبرنا عليه من أهازيج ونداءات تهتف بالوحدة، ننسى صباحاتٍ لم نفعل فيها شيئاً سوى الاصطفاف مع أقراننا نردد: "وكلُّ العرب إخواني". أتذكر عندما كنت في التاسعة في الصف الرابع، أعتقد أنها كانت المرة الأولى التي أسمع فيها: "الشعب العربي فين" لا أدري إن أدركتَ مثلي أن ماكان يردد قبل خمس عشرة سنة ينطبق تماماً على حالنا اليوم. لا نزال بارعين في الكلام على الأقل، أو مايُعرف ب "بلاغة العرب".
الإعلام يرينا جزءاً من الصورة، يصوغها لنا في كلمات مصفوفة أبعد ما تكون عن الواقع، لكن دعنا نجرّب قراءةً أخرى للأحداث، وللتنويه فقط لستُ هنا لأحكم سياسياً على الوضع ولكنني هُنا أخاطب قلبك، وأعبّر بشيء يكادُ ينفجر رأسي من شدة صداه.
"خرج شابٌ بعدما ودعته أمه محفوفاً بدعواتها التي انتشت بمعرفتها بانتهاء الخصام الذي دام لعدة أيام مع والده حول موضوع التحاقه بالجامعة، وعدته أن تعدّ له طبقه المفضّل على الغداء احتفالاً بالصلح، خرج باسماً لوعودها مطمئناً بحصن دعواتها، لكنّ رصاصة اخترقت هذا الحصن، اخترقت عينيه وقتلت فرحتها"
تخيّل لو أنّك تعرف أسماء كلّ شخص من العشرة المقتولين في الخبر السابق، تخيّلهم أبناء حارتك، جيرانك، أصدقاء دراستك، زملاء في العمل، أسقِط أسماءهم على ذكرياتٍ حدثت في طفولتك، هل يغيّر هذا من قراءتك للخبر؟
"قتل عشرة مدنيين وجرح آخرون خلال اشتباكات مع قوّات الأمن"
ماالفرق بينهم وبين من تعرف؟! ألم نحفظ عن ظهر قلب "إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى".
نحنُ نعرف ماتنقله لنا وسائل الإعلام عن سوريا، العراق، فلسطين، بورما، اليمن، مصر ...
نرى ما يريدنا أن نراه ويخفي ماكان أعظم، يروي لنا النسخة المختصرة من القصة، يختزلها في رقم، اسم، مجموعة، صورة مكررة، لكنّ هذه الصورة هي كائن حيّ مستقل له عائلة، تاريخ وحياة وليس مجرد عنصر جذب في نشرة الأخبار تتسابق عليه صفحات الجرائد الأولى.
فكّر في عدد سكان الكرة الأرضية، فكّر كم منهم عانى من الجوع، الهجرة، الفقر، الجهل، الحرب، الفقد، فكّر في الكم الهائل من الخبايا التي تجهلها عن تفاصيل معاناتهم. فكّر جيداً قبل أن تتخذ موقفاً. قلص هذه الدائرة أكثر، تذكّر قصة إنسانية واحدة فقط عشتها شخصياً مع قريب لك، تذكّر مشاعرك في تلك اللحظة، تذكّر ردة فعلك، فكّر فيمن يمكن أن يعيش هذا الظرف يومياً لكن في كل مرة مع شخص مختلف!
حسناً عُد للواقع الآن، هل تذكر ماقرأته للتو في تويتر: "صنع أكبر قطعة بيتزا في العالم ودخولها لموسوعة جينيس" هل يبدو لك مألوفاً؟ فكّر في آخر سطر كتبته قبل دقائق وشاركت العالم به، هل كان فعلاً يستحق؟!
إن لم تكن قادراً على اتخاذ موقف حقيقي، ربّما يكون وقعُ الصمت على الأقل أخف من غيره وأكثرَ حكمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق