الموت. الشبح الذي ندرك حقيقتة وجوده، نسمع عنه ونتناقل القصص عمن زاره ونؤمن به كيقين مؤكد في دنيا فانية لكننا لا نستوعبه حقاً حتى يزورنا بصورة قريبة. قريبة مفاجأة. قريبة مفجعة.
توفيت البارحة زميلتي في العمل. معلمتي. ملهمتي. جارتي في المكتب. لاأعرف أي وصف أختار لها، كانت أشياء مختلفة متضادة ومتناغمة.. عرفتها منذ اليوم الأول لها في الدمام ومرت علاقتنا بمراحل مختلفة اختلفنا في كثير منها وتعلمت منها في كثير آخر.
لقاؤنا الأول
أذكر تفاصيل محادثتي معها عندما رأيتها للمرة الأولى، وأذكر شغفها في أول محاضرة عندما حدثتنا عن خلفيتها ومسقط رأسها وعملها في جدة في الجامعة وعلاقتها الممتازة مع طالباتها الخريجات.. انبهرنا بقصتها عندما سمعناها للمرة الأولى وضحكنا كثيراً بعدها عندما بدأت تكرر القصة في محاضرات أخرى.
كانت تحب الحديث وتتقن أصوله، فعندما تبدأ بسرد موقف أو إسداء نصيحة تستطرد بالحديث وتنقلك من عالم لآخر بأسلوب لاتملك معه إلا الاستماع والإستمتاع. تتحدث دائماً من خبرتها وتملك تجارب لاتعد ولاتحصى.
عندما بدأت بالعمل درست معها في أول ترم لي بالجامعة وكنت أتعجب من قدرتها على الارتجال حينما تباغت بموقف غير مخطط له أو سؤال خارج النص وكانت دائماً تملك حضوراً يضيف لخبرتها في الحديث فتبدو متأكدة جداً مما تقوله، وقد تكررت المواقف حينما تتحدث بحزم ثم تلتفت علي بابتسامة ساخرة تتبعها ب”لاأعرف مالذي قلته للتو”..
مداخلاتها المثرية في الإجتماعات وإضافاتها الأكاديمية المثرية لايمكن حصرها حتى أطلقنا عليها "queen of rubrics" لقدرتها على فهم وإعداد هذه المصفوفات بصورة متميزة.
مؤخراً كانت جارتي في المكتب أطل عليها كل صباح وأودعها في نهاية اليوم، أسأل عنها وعن يومها ونتحدث عن الطالبات بشكل أو بآخر، عندما كنت مسؤولة في المعرض الترم الفائت لا أنسى لها مساعدتها لي في عطلة نهاية الأسبوع وتكبدها عناء العمل الإضافي بكل رحابة صدر وبمبادرة سأفتقدها حتماً..
مررت بها الأسبوع الماضي لأحدث طالبات إحدى محاضراتها وكنت أمازحها “لقد افتقدتك منذ انتقلتِ للمكتب الجديد، علينا أن نجد بعض الوقت لنمضيه معاً”… سأفتقدك الآن للأبد…
رحمته وسعت كل شيء
حزينة جداً.. وأكثر ماآلمني أنها رحلت دون أن تُسلم. أريد أن أطلب لها الرحمة، أن أجمع لها الصدقات، أن أفعل الخير باسمها دون جدوى.. لو عاد بي الزمن سأحدثها أكثر عن الإسلام، ورغم أنها كانت في غاية الإحترام لكل العادات والتقاليد ودائماً ماتتحدث بلغة راقية عن السعودية وهي أفضل من أعرف من الأجانب في لف “الطرحة" ولبس العباءة إلاّ أن كل ذلك لايكفي دون الشهادة.. وفاتها أثرت فيني كثيراً واتصلت مباشرة بزميلة لي في الغربة أحدثها عن الإسلام وأجدني أدركت بصورة مباغتة أن الحياة لاقيمة لها إلم تحتوي أثراً بهذه القيمة.
منذ أن تلقيت خبر الوفاة وأنا أبحث عن جواب لهذا التساؤل، ماذا يمكنني أن أفعل لها؟ وأعرف أن رحمة الله واسعة وأعرف يقيناً أن الله أرحم مني ومن غيري بها وهو أعلم بقلبها وصالح عملها وأدعوه أن ينظر لمافي قلوبنا لعله يشفع لها ويخفف عنها في وحشتها.
-
يأتي هذا الخبر لاحقاً لخبر وفاة محمد بن رافعة الذي فجعت به من قريب وأجدني متأثرة جداً بهؤلاء الذين عرفت باغتهم الموت وباغت أحبابهم.. أسأل الله أن يربط على قلوبهم ويلهمهم الصبر والسلوان.
-
حسن الختام وطيب المأوى
أيامنا في هذه الدنيا محدودة، تكاد تختفي في غمضة عين ودون استئذان.. أعد النظر في علاقتك بربك تفقدها يومياً واطلب المغفرة، أعد النظر في علاقاتك بمن حولك وانظر لأولائك الذين يعنون لك حقاً، أكرمهم واقضِ وقتاً أطول معهم فلاتدري أي في أي ساعة سيحين أجلك..
اللهم احفظ لنا أحبابنا ولاتفجعنا في فقدهم وأحسن خاتمتنا في الأمور كلها…