الاثنين، 15 أكتوبر 2018

وداعاً -كيت-

الموت. الشبح الذي ندرك حقيقتة وجوده، نسمع عنه ونتناقل القصص عمن زاره ونؤمن به كيقين مؤكد في دنيا فانية لكننا لا نستوعبه حقاً حتى يزورنا بصورة قريبة. قريبة مفاجأة. قريبة مفجعة. 
توفيت البارحة زميلتي في العمل. معلمتي. ملهمتي. جارتي في المكتب. لاأعرف أي وصف أختار لها، كانت أشياء مختلفة متضادة ومتناغمة.. عرفتها منذ اليوم الأول لها في الدمام ومرت علاقتنا بمراحل مختلفة اختلفنا في كثير منها وتعلمت منها في كثير آخر. 

لقاؤنا الأول 

أذكر تفاصيل محادثتي معها عندما رأيتها للمرة الأولى، وأذكر شغفها في أول محاضرة عندما حدثتنا عن خلفيتها ومسقط رأسها وعملها في جدة في الجامعة وعلاقتها الممتازة مع طالباتها الخريجات.. انبهرنا بقصتها عندما سمعناها للمرة الأولى وضحكنا كثيراً بعدها عندما بدأت تكرر القصة في محاضرات أخرى.  

كانت تحب الحديث وتتقن أصوله، فعندما تبدأ بسرد موقف أو إسداء نصيحة تستطرد بالحديث وتنقلك من عالم لآخر بأسلوب لاتملك معه إلا الاستماع والإستمتاع. تتحدث دائماً من خبرتها وتملك تجارب لاتعد ولاتحصى. 
عندما بدأت بالعمل درست معها في أول ترم لي بالجامعة وكنت أتعجب من قدرتها على الارتجال حينما تباغت بموقف غير مخطط له أو سؤال خارج النص وكانت دائماً تملك حضوراً يضيف لخبرتها في الحديث فتبدو متأكدة جداً مما تقوله، وقد تكررت المواقف حينما تتحدث بحزم ثم تلتفت علي بابتسامة ساخرة تتبعها ب”لاأعرف مالذي قلته للتو”.. 
مداخلاتها المثرية في الإجتماعات وإضافاتها الأكاديمية المثرية لايمكن حصرها حتى أطلقنا عليها "queen of rubrics" لقدرتها على فهم وإعداد هذه المصفوفات بصورة متميزة. 

مؤخراً كانت جارتي في المكتب أطل عليها كل صباح وأودعها في نهاية اليوم، أسأل عنها وعن يومها ونتحدث عن الطالبات بشكل أو بآخر، عندما كنت مسؤولة في المعرض الترم الفائت لا أنسى لها مساعدتها لي في عطلة نهاية الأسبوع وتكبدها عناء العمل الإضافي بكل رحابة صدر وبمبادرة سأفتقدها حتماً.. 
مررت بها الأسبوع الماضي لأحدث طالبات إحدى محاضراتها وكنت أمازحها “لقد افتقدتك منذ انتقلتِ للمكتب الجديد، علينا أن نجد بعض الوقت لنمضيه معاً”… سأفتقدك الآن للأبد… 

رحمته وسعت كل شيء 

حزينة جداً.. وأكثر ماآلمني أنها رحلت دون أن تُسلم. أريد أن أطلب لها الرحمة، أن أجمع لها الصدقات، أن أفعل الخير باسمها دون جدوى.. لو عاد بي الزمن سأحدثها أكثر عن الإسلام، ورغم أنها كانت في غاية الإحترام لكل العادات والتقاليد ودائماً ماتتحدث بلغة راقية عن السعودية وهي أفضل من أعرف من الأجانب في لف “الطرحة" ولبس العباءة إلاّ أن كل ذلك لايكفي دون الشهادة.. وفاتها أثرت فيني كثيراً واتصلت مباشرة بزميلة لي في الغربة أحدثها عن الإسلام وأجدني أدركت بصورة مباغتة أن الحياة لاقيمة لها إلم تحتوي أثراً بهذه القيمة. 
منذ أن تلقيت خبر الوفاة وأنا أبحث عن جواب لهذا التساؤل، ماذا يمكنني أن أفعل لها؟ وأعرف أن رحمة الله واسعة وأعرف يقيناً أن الله أرحم مني ومن غيري بها وهو أعلم بقلبها وصالح عملها وأدعوه أن ينظر لمافي قلوبنا لعله يشفع لها ويخفف عنها في وحشتها.

-
يأتي هذا الخبر لاحقاً لخبر وفاة محمد بن رافعة الذي فجعت به من قريب وأجدني متأثرة جداً بهؤلاء الذين عرفت باغتهم الموت وباغت أحبابهم.. أسأل الله أن يربط على قلوبهم ويلهمهم الصبر والسلوان. 
-

حسن الختام وطيب المأوى 

أيامنا في هذه الدنيا محدودة، تكاد تختفي في غمضة عين ودون استئذان.. أعد النظر في علاقتك بربك تفقدها يومياً واطلب المغفرة، أعد النظر في علاقاتك بمن حولك وانظر لأولائك الذين يعنون لك حقاً، أكرمهم واقضِ وقتاً أطول معهم فلاتدري أي في أي ساعة سيحين أجلك.. 
اللهم احفظ لنا أحبابنا ولاتفجعنا في فقدهم وأحسن خاتمتنا في الأمور كلها…  

الأربعاء، 10 أكتوبر 2018

معلم قيد التعلّم

لاأستطيع تذكر تاريخ بدايتي في التعليم فمنذ زمن طويل وأنا في هذا المجال، أتذكر دروس المصلى في المتوسطة وتطوعي في الصيف مع غراس أو لتدريس الأطفال في أحد المراكز الصيفية، بل لاأكاد أتذكر صيفاً دون أن أكون ضمن أحد هذه البرامج وأعتقد أن سنوات الجامعة صقلت هذه المهارة من خلال مهارات العرض العلمي وأسلوب طرح الأفكار بشكل أكثر حرفية. 

خط زمني 

أذكر خلال دراستي الجامعية إعدادي لدرس ديني أسبوعياً بيني وبين زميلاتي لايزال من أجمل ذكرياتي، كنت أستمتع بتلخيص الدروس وإعادة سردها بطريقة قصصية وتفاعل الأشخاص مع ما أروي كان حافزاً كافياً كي أستمر.
في السنة الثالثة، أنشأت نادٍ للقراءة مع زميلتي أسميناه تطوير وقدمنا من خلاله عدداً من الفعاليات. جاءتني  خلال هذه الفترة رسالة بترشيحي للمشاركة في المؤتمر العلمي من خلال تقديم ورشة عمل عن القراءة السريعة، كنت سعيدة جداً بهذه المشاركة وفكرة أن يتم ترشيحك لأداء ماتبرع به لأول مرة يمثل تحدٍ شيق قد يجعلك تستيقظ دون الحاجة للمنبه. 
وظيفتي الحالية أثارت عدداً لانهائياً من التساؤلات عن التعليم. سنوات عملي الأولى كنت فيها أقرب للمراقب المتعلم منها للمعلم، كنت في موضع يسمح لي برؤية الأشياء على بعد وغالباً يكون من السهل ابداء الآراء في مسائل لسنا بعد في موضع تحت ضغوطات اتخاذ القرار فيها. 
مؤخراً اختلفت القصة، فمنذ أن عدت من الماجستير استلمت مهام المحاضر وهي في القسم الذي أعمل فيه على الأقل لاتختلف عن مهام الدكتور المسؤول عن المادة بل أكثر. منذ أن يتم وضع اسمك في الجدول حتى تسليم التقرير النهائي عن المادة ومراجعة نتائج تقييمها مع رئيسك أنت المسؤول عن كل مايتعلق بها. مهام ومسؤوليات مختلفة وأمور قد لاتكون فيها خبيراً بعد وأحياناً تكون مهام غير محببة لأن الموضوع لا يتعلق فقط بحضورك وشخصيتك المميزة داخل الفصل لكنه يتعداه ليصل لمدى التزامك وجديتك وحضور شخصك مع الطالب ومع مرؤسك في نفس الوقت، تكون ليناً هنا حازماً هناك ومتفهماً في كثير من الأحيان التي لا تفهمها في اللحظة.

سؤال المرحلة

أكثر ماتعلمت منه ولاأزال هو حديثي مع زميلاتي في المهنة ونقاشاتنا المستمرة حول كيفية التصرف في مواقف مختلفة، فمن الصعب إيجاد كتاب تتبعه خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأشخاص حولك. يتبع كل منا نهجاً مختلفاً ويطرح الجميع وجهة نظره دون أن نتفق لكنني أستمتع بسماع الإختلافات ومنها أفهم أنّ الطريق الصحيح ليس بالضرورة واحداً.
أعتقد أن أكثر ماتحتاجه هذه المهنة هي الحكمة وسرعة البديهة، وكلاهما يتطور مع سنوات الخبرة، الممارسة والإستماع أكثر من الكلام، عندما لاتعرف كيف تتصرف وتساءل نفسك هل مافعلته هو الصواب فأنت تقوم على الأرجح بأفضل ماتستطيع، وهناك معلمون بالفطرة وآخرون يتعلمون وبعضهم ليست المهنة في دمه ببساطة والمؤهلات لا تقتصر فقط على التحصيل العلمي أو حضور الشخصية، بل أهمها الأمانة في التعلم ونقل المعلومات ومخافة الله في المسؤولية التي بين يديك وهو الدافع الأقوى خصوصاً عندما لاتكون في أفضل حالاتك.   

أحاول دائماً أن أرى الصورة الأكبر، أن أحب عملي كل يوم أكثر مما قبل وأن أكون على قدر من الحضور والإتقان الذي لا يقصر في حق طالباتي أولاً ثم في حق وظيفتي التي أؤمن بأنّ هدفها الأساسي هو إعداد الشباب لخدمة الوطن من خلال تعليمهم القيم والمهارات المطلوبة والمتوقعة لسوق العمل وإعدادهن للحياة بشكل أدق خصوصاً من خلال دراسة التصميم الذي غير حياتي شخصياً. 

لم يمت من له أثر*

كل يوم يزداد فهمي لمعنى التعليم بشكل أكبر، فأن تكون معلّماً لايعني أن تمارس مهنة التدريس فقط، هي أن تكون قدوة في نفسك أولاً ومن ثم في مجال تخصصك، أن تحتوي وتوجه وأحياناً أن تكون مرشداً مسؤولاً في نفس الوقت. أتمنى أن أكون معلماً ذو أثر وأعتقد أنني أمتلك المقومات اللازمة لذلك وأدعو الله أن يعينني على صقلها وتطويرها… 
يطول الحديث حول هذا الموضوع ولاأعرف إن كان ينتهي لخلاصة لكنني أحببت أن أوثق شعوري في بداياته حتى أتمكن من زيارة هذا الشعور بعد سنوات وأرى إن كنت أتفق معه أم لا.  

الجمعة، 3 أغسطس 2018

بعد الإبتعاث

رغم أنه لم يمض على عودتي من لندن سوى أشهر إلاّ أنني أشعر وكأنني لم أغادر من الأساس. أحياناً يصعب علي استحضار الأماكن واللحظات التي قضيتها هناك ويستوقفني دائماً أصحاب التجارب المشابهة وأنبهر عندما أقابل أحدهم ممن مضى على ابتعاثه زمن لكن قصص وتجارب المرحلة لاتكاد تفارق أياً من أحاديثه ويدفعني ذلك للتساؤل، هل النسيان، التناسي أو غيره شيء طبيعي؟
بعد عودتي بأسبوع باشرت العمل وانغمست مباشرة في مهام الجامعة والإنتقال لمنزل جديد والعلاقات الإجتماعية وأعتقد أنني مع زخم هذه الإلتزامات لم يتسن لي الوقت الكافي لأتأمل أو أفكر في وضع المرحلة مقارنة بغيرها. بالتأكيد الحياة هنا مختلفة عن غيرها وخلال زيارتي الأخيرة للندن فهمت بشكل واضح أن ماتغير علي لم يكن له علاقة بالمدينة نفسها ولكن بما تمنحه لساكنيها وتحديداً بالإستقلالية المبالغ فيها أحياناً. أسلوب الحياة، طبيعة العلاقات، والتفاصيل اليومية التي تجعلك إلى حد كبير تملك وقتك وتديره بالطريقة التي تريدها.
أمضيت فترة بعد عودتي أتساءل عمّا يجعل الأماكن وطناً ويحدد مصيرها بساكنيها، ولعل ماأثار هذا التساؤل بشدة هو تشتتي بين عدة منازل لفترة طويلة وبينما لم أجد صعوبة في تقبل مسكن جديد في لندن وجدت صعوبة بالغة في الإنتقال لمنزل جديد هنا، ماخلصت له حتى الآن وهي خلاصة متواضعة لازالت تتبلور هو أن المساحات الشخصية التي يجمعها الإنسان لنفسه والعادات اليومية التي يكررها في حيز معين، التفاصيل التي يضيفها، يعزلها، يطرحها من الأشياء حوله وأهم من كل هذا الذكريات التي يحملها أو يبنيها في المكان هي التي تحدد قيمته وأحياناً يجبر المرء على التأقلم وأحياناً يشعر أنه اختياره الوحيد أو أنه يأتي بعد بحث طويل فيسلم له أحلامه لكنّ هذا لايعني أنه لايمكن أن يعيد صياغته لشيء أقرب وأكثر عمقاً.
 
بعد الإبتعاث كنت أعتقد أنني سأكون متحمسة أكثر للعمل والإبداع في المجال الجديد الذي تعلمته لكنني أظن أنني تشتت مع كل التغييرات حولي بما فيها التغييرات في الوطن والرؤية الجديدة، أعتقد أن هذا جعلني محبطة بعض الشيء وأبحث عن الهدوء أكثر من بحثي عن الشغف، لم يكن هذا سلبياً تماماً كما يبدو لكنه على غير ماتوقعت ولهذا تأثير مختلف نوعاً ما. لم أجد بعد فرصة لتطبيق دراستي رغم أنني أجد المشاريع من حولي كثيرة، وربما هو الفريق أو الأسلوب أو كما أخبرني أحدهم طريقة عرضي لماتعلمت لكنني متفائلة أنني سأهتدي للطريق عمّا قريب. 
وجدت مايشغلني بالإضافة للتدريس الجامعي، أعددت منهجاً جديداً، قرأت كثيراً، جربت العمل المستقل وعملت على عدد من المشاريع الحكومية والخاصة، صممت عدد من المنتجات لكنني وبعد كل هذا لازلت أشعر أنّ هناك شيئاً أكثر قيمة يمكنني أن أحترفه ولعلي تائهة في الطريق الصحيح أو الخاطئ ولاأعرف غير أنني أجرب حتى اللحظة سعياً للوصول. وربما هو الموازنة بين كل هذا وربما هو شيء جديد مختلف كلياً. أستطيع أن أقول أن هذه الحيرة جعلتني أقرب لنفسي وأنتبه أكثر لتفاصيل مايعجبني ومايزعجني، للقيم المهمة في حياتي ولما أختار أن أعطيه وقتي. ليست النهايات دائماً باختياري لكنني أسعى لأن أقنن عدد ماهوعكس ذلك.
تحقيق نفسي في بيئة العمل قيمة مهمة جداً وكوني درست الفن غير في شخصيتي كثيراً وأضاف لهذه القيمة وزناً مختلفاً مرتبط بقوة بتحديد معنى الأشياء من حولي، ومؤخراً أدركت أنني من ضمن الأشخاص ذوي الإدراك العالي وهذا لايجعل الوضع أفضل على أية حال وقد أتحدث عنه لاحقاً بشيء من التفصيل… 

خلاصة القول أن درجة الرضا عن الحياة لدي ومايحقق لي السعادة قد تغير ميزانه كلياً ولم تعد الأشياء السابقة تحمل ذات المعاني وقد سبب لي كل هذا درجة كبيرة من الشتات الذي لازلت أحاول أن أجمعه لكنّه في المقابل يتيح لي فرصة اكتشاف نفسي والعالم الصغير من حولي من جديد ولأنني في مرحلة البداية في كل شيء أقوم به حالياً فالأخطاء واردة وكثيرة وأفكاري لازالت مبعثرة رغم انعكاسها بشكل ايجابي على مستوى النضج الفكري الذي أشعر به، وللمرحلة جوانب مختلفة ومتضادة أدعو كلّ يوم أن تصلني بالغاية وألا تضيع مقابل لاشيء. 

Feature Post