السبت، 9 فبراير 2019

تهذيب النفس


كيف يمكن للإنسان أن يهذّب نفسه؟ سؤال يفضي لسلسة من الأسئلة تسبق المقصود وتتبعه ولعل الإجابة عليه قد تأخذنا في الأصل إلى فهم معنى التهذيب الذي نقصده في هذا السياق. التهذيب هو التربية والإصلاح وجعل الشيء سليماً من العيوب وتهذيب النفس لايختلف معناه كثيراً عن هذه الترجمة بل ويقاس عليها بشكل واضح.
ألحّ علي هذا السؤال من خلال تكرار النقاشات عن “جيل هذه الأيام” وعبء التربية الذي لا يستطيع المربّيين تحمله وحدهم وكثرة الدواخل والآراء المؤثرة على الشخص، وقد يكون هذا الأمر جليّاً في الأجيال الصغيرة التي لاتزال في طور النمو لكنّ مايشدني أكثر هو فهمه من منظور الأعمار الأكبر، سن العامل المربي الذي تجاوز مرحلة الدراسة. 

عندما تغيب الأم وينشغل الأب وتنتهي مرحلة الدراسة بمفهوم التلقي وتحضر وسائل التواصل الإجتماعي والمؤثرين من كل أصقاع الأرض بمختلف الثقافات والخلفيات الإجتماعية، كيف أحافظ على تهذيب نفسي؟


عندما طرحت هذا السؤال على الإنستقرام وصلتني إجابات كثيرة، جلّها ركز على الدعاء واللجوء للقرآن للحفاظ على النفس السوية، ولاشك أنّ هذا من أهم الأمور التي يبنغي الإشارة إليها. ولطالما اقتنعت أنّ فطرة الإنسان في الأصل جامحة تحتاج لقوانين وأُطر واضحة كي تستقيم وهذا المعنى لايتعارض أبداً مع قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة" فالفطرة هي الإسلام والتهذيب والتربية هي الدرجات - الإيمان والإحسان- وبالطبع نطمح لأعلاها.  
أعجبني بعد البحث أن عدداً كبيراً من الكتاب تطرق لهذا الموضوع ويبدو أن هذا الأمر قد شغل الأزمنة بمختلف ملامحها وكانت الإجابة تقريباً متشابهة في كل مرة رغم اختلاف السياق. ابن المقفع على سبيل المثال عندما سُئل "من أدّبك"؟ قال: "نفسي. إذا رأيت من غيري حسناً آتيه، وإن رأيت قبيحا أبَيْته" ولعل هذا يعيدنا للمعنى القرآني في تفضيل النفس الأوابة التي تراجع إيمانها وتجددالأصل. ولاشك أنّ للصحبة تأثير كبير على حرص النفس على التوبة والتذكير بالهدف من الحياة "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ" وهذا الأمر يدعوني للتفكر، هل حلّت وسائل التواصل الإجتماعي اليوم بديلاً عن الصحبة؟


اختر العزلة

إذا كنّا نعتقد أن الصحبة هي العلاقات التي تقضي معها وقتك وتستمع لها وتصغي لنصحها فهل أصبح مؤثرين مواقع التواصل الإجتماعي ومشاهيرها هم "الصحبة"؟ قبل أيام قرأت احصائية عن استعمال الشباب في هذا الوقت للإنترنت وعلاقة الإنجاز الحقيقي بما يتم نشره، وبصورة غير صادمة البتة فإن هذا الزمن هو أكثر العصور التي تم الإحتفال بها عبر الإنترنت دون إنجاز فعلي موازي على أرض الواقع. وهنا تجدر الإشارة لما ذكره مايكل هاريس في كتابه العزلة بأنّ الوقت الجيد الذي يقضيه الإنسان مع نفسه هو المقوّم الأساسي لسلوكه وذاته، وهنا يقصد الفصل التام عن أي جهاز أو تقنية أو صوت خارجي وليس فقط الجلوس وحيداً مع هاتفك بدون صحبة. هو يعرّف التهذيب كعزلة ويعتبر هذا الوقت من أهم العوامل التي توصل الإنسان لنضجه الداخلي وفهمه لنفسه والعالم من حوله.
هذه الطريقة في اعتزال العالم الإفتراضي أصبحت هبة في الآونة الأخيرة "ديتوكس السوشيال ميديا" وأعتقد أن فكرتها جيدة لكنّ التطبيق يحتاج لمراجعة. لو افترضنا أن الهدف الأساسي هو تنظيم الوقت والإنشغال بالمفيد والتركيز على تحسين جودة الحياة واللحظات الحقيقية فيها فهل يحتاج الإنسان أن يعتزل مايزعم أنه سبب الفوضى في حياته لمدة شهر على سبيل المثال ثم يعود لنفس الروتين السابق وكأنّ شيئاً لم يكن؟ هل هي جرعة سنوية أم أن المراد يتحقق بالتربية اليومية لتقويم سلوكنا نحو هذا الموضوع؟ للإجابة نعود لتهذيب النفس من منطلق ديني كما بدأنا، لو أنك تعتزل الدنيا وملهياتها وكل مايشغلك يومياً خمس مرات تفصل فيها عقلك عن الدنيا لتركز على روحك وقيمتك المعنوية بالدعاء وطلب الآخرة كما يحدث عند أداء فروض الصلاة لكفى ذلك كنوع من المراجعة والتأمل الذي يشحن طاقتك للإستمرار في فوضى الإنشغال، لتحقق المراد من جرعات العزلة. لكننا نبحث عن حلول خارجية نحقق فيها التصالح الذاتي دون التفكير فيما بين أيدينا من أدوات ونعِم.  


"أنظر لنفسي من الخارج وأستطيع أن أرى كل شيء في مكانه الصحيح وعندما لاأرى ماأردت لها أن تشبهه أعود فأصلح الأمر. لأنني أهذب نفسي بفضلها، وأعيش مقلداً لهه وماأريد الوصول إليه بتقليده مؤمناً أنني سأكون هو في أحد الأيام أو سأكون مثله على الأقل وأعيش على هذا الأمل” 
- أورهان باموق 


حل أوسط

لاشكّ أن مايحيط بك سيؤثر بك وخصوصاً مانسمع ونرى في أوقات استرخاءنا عندما يكون عقلنا اللاواعي في وضع التخزين وهو تقريباً مايضيع به وقت طويل من يومنا لذا ولأقل الضرر، أحط نفسك بمن تطمح أن تكون مثلهم ومن يلهمك نجاحهم بعيداً عن الماديات والإعلانات التي غزت هذا الزمن ووصلت لكل بيت وفرد كما لم يفعل زمن من قبل وأغرقتنا في الإستلاهكية بشكل وأعتذر على هذا اللفظ ولكن عليّ القول بأنه مقزز. لايمكنك تصفح أي شيء من دون أن تستمتع لإعلان أو غيره ممن يحثك بطريقة في غاية الإبتذال للشراء ويقنعك بأنّ هذا يستحق مالك وينتهي يومك وأن تدور في حلقة مفرغة توهمك بحاجتك لأشياء لا تمتلكها وتحيك على السعي لنيلها وتجعلك في حالة دائمة من الإنزعاج وعدم الرضا عندما تعجز عن توفيرها!


هل أعزل نفسي عندما أهذبها؟ 

ترفعك عن الدنيء وعدم معرفتك بصيحات الموضة وسكتشات اليوتيوب وترند الكلجات بالطبع لن يزيد من شعبيتك الإجتماعية وسواء اعترفنا بهذا الأمر أم أنكرناه فإنّ إثبات أنفسنا في دوائرنا الإجتماعية مهما اختلف قطرها ضرورة من ضرورات الحياة وتهذيب النفس الذي أتساءل عنه هنا لايعني أنّك لن تكون ظريفاً أو ذو شخصية محبوبة أو أنك ستقضي وقتك في الأمور الجدية فقط، فلابد في النهاية من الموازنة والترويح عن النفس ولكن لكل شيء قدر والإفراط الحالي يشدنّا لنتيجة لاتظهر علاماتها حالاً وهو الأمر المخيف حقيقة. ربما يكون الحلّ في هذه المرحلة من الإفراط أن نتجه للتشدد ثم التخفف تدريجياً حتى نبدأ برؤية النتائج وكما نعرف "التخلية قبل التحلية" ولايمكن أن تغرس قيماً جميلة عندما لاتفهم معنى القيم بالأصل. 


الإسلام يهذبنا 

أعظم ماتقدمه لنفسك هو فمهما، مالذي يزعجك؟يستثير غضبك؟ يسعدك؟ يحفزك على العمل؟ يضيعك عن الهدف؟ وكل شخص هو أدرى بذاته ومايؤثر فيها والخطوة الأولى في اعتقادي تجاه موضوع تهذيب النفس هو فهم مشاعرك وطريقة تعاملك معها.
في الوقت ذاته، وقتك هو أمانة وستسأل عنه فيما قضيته وهذه قضية جوهرية مخيفة حقيقة أن تقف بين يدي الله وقد أضعت عمرك في المشتتات ولعلها السبب الأكبر الذي يدعونا لطرح مثل هذا السؤال وإعادة التفكير والبدء في خطوات عملية نحو مفهوم التهذيب. 


الموضوع بالنسبة لي لازال شائكاً ويستحق البحث والنقاش لذا أسعد بآرائكم وأسئلتكم علّنا نصل لما يساعدنا في رحلة الإكتشاف 

كتب أنصح بها في الموضوع: 


Feature Post