- كنتُ أتمنى أن أحصل على أكثرَ من هذا،
قالتها بنبرةٍِ من الأسى غصت بها.
سألتها سؤالاً بديهياً؛
- مثل ماذا؟
وكما في تحقيقات الشرطة تسأل الأسئلة البسيطة كي يظنّ الجميع ألا شيء بين طيّات السؤال، لكنّ الحقيقة أن سؤالاً كهذا عادةً ينتظره الشخص طويلاً حتى اذا أتيحت له الفرصة لم يحفظ وقتاً في سرد مابداخله.
قالت:
- كانت لديّ طقوسي المختلفة، تقول أمي دائماً إنني كنتُ الأحنّ بين إخوتي، ذلك الشخص الذي يفكر في تحقيق رغبات الآخرين حتى يراهم سعداء ويسعد هو بالمقابل. ربّما كبرت هذه الصفة معي عندما كبرت حتى باتت بصمة عارٍ تلاحقني أينما كنت.
ظننتُ أنني وبوصولي لهذا العمر قد تجاوزت هذه المرحلة التي أخلط فيها بين الإيثار وتضييع ماأستحق لكنني لم أفعل والنتيجة أنني خسرتُ كثيراً مما بين يديّ لأجل هذا.
لم أفهم تحديداً ماتريدُ قوله لكنني لم أشأ أن أقاطعها، أحياناً لا يحتاج الشخص الذي أمامك أن تفهمه بقدرِ ما يحتاج منك أن تُصغي بقلبك لما يقول، قصتها لم تكن مختلفة عن كثيرٍ مما سمعت لكنّ شيئاً ما في صوتها شدني بصورةٍ لم أرد لها أن تتوقف! اكتفيتُ بايماءة.
-رأيتُ حلماً جميلاً قبل أيام، لم أرد أن أستيقظ منه أبداً. كنتُ سعيدةً فيه بصورة لم أختبرها في الواقع بعد. كنتُ بين أناسٍ أحبهم ويمسك بيدي أحدهم، لكنّهم لم يشبهوا أحداً ممن أعرف، حاولتُ أن أستفسر عن أسماءهم لكنّهم لم يلقوا بالاً لسؤالي وبدأنا بعدها في الضحك، ذلك النوع المحبب من الضحك النابع من القلب لا بقصد السخرية بل للتعبير عن الأنس وكأننا كنّا نتذكر موقفاً طريفاً مررنا به في طفولتنا أو ماشابه.
أتذكرُّ المكان الذي جلسنا فيه جيداً، السماء كانت زرقاء صافية، وهناك على مدّ البصر رمالٌ ذهبية، لكنني لم أرَ بحراً أو أيّ أثرٍ للمياه، ربّما كنّا في صحراء لكنني لم أحس بالحرّ. المهم أنّه كان حلماً لم أرد أن أستيقظ منه. لكن وككل الأحلام لابدّ أن تنتهي. قضيتُ ذلك اليوم في مزاجٍ عكر، لم أستطع الاستيقاظ فعلياً ممارأيت وكان كلّ شيءٍ حولي يذكّرني بأنني لن أصل لجزءٍ من هذا الحلم.
-قاطعتها:
- لكنّكِ تبالغين، أنا أرى كيف تعاملين من حولك وكما يقول درويش" لازال في الحياة مايستحق"
- أعرف أنّ هناك مايستحق لكنّه ليس معي بعد! لم أصل إليه، لم أجد نفسي فيما حولي.
انفجرت هنا بالبكاء ووجدتني واقفةً في صمت من لايدّ له ولا حيلة، حتى أنني لم أحاول أن أضمها أو أمسك بيديها، اكتفيتُ برؤيتها هناك غارقة في أحزانها، في الواقع الذي تريدُ الخلاص منه، في الأشخاص الذين لم تتعرف عليهم بعد لكنّها تعرف أنهم أصدقاءُ جيّدون وسيقدرونها وسيهتمون بها. بكاؤها كان صارخاً وقال أكثر مما قالته شفتاها الجميلتان. فتاةٌ في عزّ شبابها ناقمةٌ على حياتها ومجتمعها، لا ينقصها شيء سوى عاطفةٍ غنيّة. كم من الأشخاص بيننا لهم قصةٌ مشابهة، بدأتُ أشفق عليها، لم تتوقف دموعها، وفي الحقيقة كنتُ أشفق على نفسي، لأن بداخلي يسكنُ شيءٌ من حلمها الذي لم أصل إليه حتى وأنا في مقتبل الخمسين.
قاطعَت حبل أفكاري.
-أتعلمين؟ لديّ الكثير لأتوقعه من هذه الحياة، لكنني أعتقدُ أن عدم حصولي عليه هو سببٌ لأتعلّق بالآخرة. تمنيتُ العيش في مدينة هادئة بها من الجمال الإلهي ماينمّي تأملي، أحبّ السماء وأحبّ الهواء. كم اشتهيتُ رحلةً على التلة أو حتى في مزرعة. تمنيتُ زاويةً في البيت الصيفي حيثُ أحيكُ وأكتب، حيثُ أعيشُ قصةً خيالية وأصدقها بكلّ جوارحي ولا أبالي. طبيعتي هادئة ولا أريدُ بيئةً لا تشبهها، الصخب يتعبني، في الموسيقى، في المدينة، في الأصوات، في الألوان وفي كلّ شيء. تمنيتُ أنني سأخرج للتسوق مع صديقتي ثم نحتسي القهوة ونفكّر في حفلة المساء هكذا بكل سذاجة. تمنيتُ أنني سأسافر لأجد نفسي، لأتعلم ثقافاتٍ مختلفة، لأملك قصصاً مختلفة وأحكيها فيما بعد لغرباء سيصبحون يوماً أصدقائي.
تمنيتُ أنني سأستيقظُ يوماً لأجد نفسي في منزلٍ لا أسمعُ فيه سوى هديرِ البحر المجاور وزقزقة العصافير التي تعلنُ بداية اليوم.
- تأملتها وهي تتحدث، عيناها كانتا جميلتين، انتفخت زهواً بماتمنتّه أحسستُ بكلماتها وكأنها واقع. غصصتُ هنا لكنني تمالكتُ نفسي، لا أريدها أن تشعرَ بضعفي ليس وهي تحاول إيجاد شخصٍ تستندُ عليه في أزمة تفكيرها.
- لو أنني أستطيع تحقيق كلّ هذا! لكنني أفكّر في حياتي الحالية وأجدُ المسافة طويلة جداً بينها وبين ما أريد. ماأطلبه هو من سابعِ المستحيلات. ربّما ولدتُ في زمانٍ لا يُشبهني وطلبتُ أكثر مما أستحق فحُكم عليّ بنهايةٍ تسحقني ببطء. وكأنه نوعٌ من الانتقام بشيءٍ من السخرية..
- لاأصدق هذا! شخصٌ بهذا التفكير عليه ألاّ يستسلم، إن أردتِ تحقيق هذه الأحلام فعليكِ العمل من أجلها بكامل قواك! لاشيء فيها مستحيل صدقيني هي أشياء بسيطة لكن ربّما تحتاج لتخطي بعض الصعاب والمحطات قبل تحقيقها. وماطعم الأحلام إن لم نقاتل من أجلها؟ ماطعم الحياة إن لم نملك أحلاماً نقاتل من أجلها؟
- أجل ولكن...
-ماذا؟ تريدين الموت إذن؟ هذه الحالة لن توصلك سوى للموتِ البطيء، اشغلي نفسك بالدراسة، بالعمل، في تخيّل الحلم واقعاً وليس مجرد العتب على ماحولك. كلّ هذا زائف، وهذه ليست النهاية أبداً لا زالت الحياة أمامك، حاولي أن تعيشيها بذكاء واستمتعي حتى في القتال من أجل حقك. أريدك فتاة قويّة فتاةً تعرف ماضيها لتستفيد منه لا لتبكي على أطلاله!
- أحسست أنني انفعلتُ قليلاً لكن ربما كان هذا ضرورياً، فجأة اتجهت نحوي وضمتني بقوةٍ أحسست بشعور غريب معها، آخر مرة أحسستُ بهذا الشعور كنتُ في العاشرة من عمري، قبل موتِ أمي بفترة، وهاهي اليوم صديقتي تعيدُ إليّ نفس الشعور! ربّما هو فرق السنِّ بيننا وربّما هو هذا الحوار المليء بالعواطف.
- لاأعرف لم فعلتُ هذا، لكن يجبُ عليّ أن أرحل الآن ولابد من خاتمةٍ ننهي بها اللقاء. أعدك لن أستسلم.
- لازال هناك ضوءٌ في العتمة ياصديقتي، ابحثي عنه وتشبثي به بكامل قواك ولا تسمحي لأحدٍ أن يسلبك إيّاه حتى لو كان هذا الشخص هو أنتِ!
غادَرت وهي تكفكفُ دموعها بابتسامة، وبقيتُ مستيقظةً تلك الليلة غارقةً في أفكاري حتى لمحتُ خيوط الصباحِ تتسلل من النافذة دون أن أحس بالوقت. وضعتُ رأسي على الوسادة واستغرقتُ في نومٍ عميق حملني لحلمٍ يشبه حلمها ومكانٍ حيثُ أردنا أن نكون سوياً في عالمٍ لا يشبه شيئاً مما نعيشه.
تمت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق