حضرتُ مؤخراً محاضرة لمخرجة أفلام تتحدث فيها عن فلمها الأخير الذي يناقش موضوع الإسكان، تدور أحداثه في منزلها الذي عاشت فيه سبعة عشر سنة على التوالي والذي قررت الجهات الاستثمارية هدّ بناءه وتعمير"منازل حديثة" تواكب التطور ورؤية الحي مكانه. تحدّث الفلم بالدرجة الأولى عن الأشخاص داخل المبنى وكيف أن زواياه تحمل قصصهم وحال أبناءهم وأحفادهم أيضاً وكيف أنّ المباني ليست إلا بالمعنى الذي يضيفه لها ساكنوها. كانت تعمد من خلال هذه القصص إلى ترك انطباع حاد لدى المستثمرين ورغم أن مسكنها قد انتهى النقاش حوله وتقرّر تعميره من جديد دون إذن نُزلاءه إلاّ أنّ اهتمامها كان منصباً على جعل ساكنيه رمز لكل السكان الذين يمكن أن يمروا بنفس التجربة.
الفلم كان رائعاً! وجهة نظرها كانت قوية، لم تكن صارخة أو هجومية، كانت مجرّدة وواضحة واستخدمت أساليب متعددة في إيصال فكرتها بطريقة جعلت المبنى يتحوّل إلى رمز للمنطقة أكثر من كونه عمارة للإسكان!
في بداية الفلم نجد الرمزية من قصيدة إنجليزية قديمة تدور حول فتاتين غنية وفقيرة، تكون الغنية في مملكتها متميزة بين أقرانها إلى أن تأتي الفتاة الأخرى بذكاءها الذي يفوق الأولى لتنافس الغنية وتتحداها في مبارزة للسيوف. ثم نشاهد حواراً داخلياً رمزياً يمثّل أحد أطرافه سكان العمارة والآخر يمثل المستثمرين. في نهاية المشهد تقرر الفقيرة الإستسلام ليس لأنها الأضعف ولكن لأنها تعبت من الجولات التي لاحصر لها، وتقوم الغنية في المقابل بانتهاز الفرصة والقضاء على الفتاة رغم أنها أصبحت مدركة لحجم خصمها وقدراته ونوعاً ما متخوفة من ردة فعله..
أعجبني جداً أخذها للموضوع بجدية، استغرق تصوير الفلم ثلاث سنوات وسيكون عرضه الأول قريباً، وما أثار اهتمامي أكثر من قدرتها على تحويل المشاعر المختلطة لساكني العمارة لمشروع حقيقي يحمل رسالة قد تغيّر وضع مشاريع قادمة، هو قدرتها بطريقة بسيطة ذكية في نفس الوقت على استعطاف الجمهور وربط المبنى بالسكان! حين تتحدث لغة الأرقام والرؤية والتخطيط يكون اتخاذ القرار منطقياً، لكن حين نقرأ المعطيات بلغة أخرى يخضع المنطق لميزان آخر أكثر عدلاً في الغالب.
حين قام المستثمرون بالترويج للمبنى الجديد كحلّ سكني للمنطقة، استخدموا عبارات مثل "رؤية جديدة لحياة أفضل"، "كلّ ماتحلم به في منزل"! فبالإضافة إلى أنهم قرروا هدم العمارة وإعادة تسويقها دون إذن ساكنيها، أعطوا نفسهم الحق لمحو كل ماكان فيها وكأنّه أقل قيمة ودون معنى. وهنا نقطة مهنية لرواد الدعاية والتسويق باحترام تاريخ المنتج أو الخدمة وعدم الإساءة للماضي من أحداث أو أشخاص لأنّ مايمكن أن يعتبر عامل جذب للعملاء المستهدفين قد يحمل شيئاً من التهميش لمن قبلهم!
هذه القضية ليست حصرية في بريطانيا، مشكلة المساكن موجودة في كلّ العالم، والأفلام التي تتحدث عن القضايا الواقعية لاحصر لها، لكنّ لغة الحديث في مواضييع مشابهة حساسة جداً. أن تستخدم فنّك في نقل رسالة تعبّرعن فئة مستضعفة دون أن تقلل من شأنهم ليس بالأمر السهل. وربما يعني في كثير من الأحيان أن تتحدث بلغة لاتشبه لغتك وهنا تكمن المخاطرة! هل تستغل ضعفهم لتحصد جوائز؟ هل تعبّر عنهم أم أنّك تستعرض مهاراتك الفنية؟ أعتقد أن أحد أسباب نجاح هذه المخرجة في لغتها القويّة كونها عاشت التجربة بنفسها لذا فهي جزء من القصة وليسن الراوي فقط، كون الممثلين ليسوا خريجيّ معاهد السينما والفنون وإنما أشخاص حقيقيين عاشو المعاناة. وربما يكون الحل ببساطة أن تجرّب عيش التجربة بنفس معطياتها دون خلفيتك وتوقعاتك المسبقة حتى تتمكن من إيصال رسالة حقيقية معبّرة وقوية غير مفبركة أو عنصرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق