لاشيء وليد الصدفة.
كل الانفعالات والمشاعر التي نمر بها هي نتيجة لتراكمات مسبقة، أمور تغاضينا عنها، مواقف لم نتفق معها، برامج اقتنعنا بوجة نظرها والكثير من الأشياء التي لم نلقِ لها بالاً!
تلك اللحظة التي نغرق فيها بكمية عميقة من المشاعر التي تباغتنا ليست في الحقيقة إلا حصيلة لكل مامرنا به قبلاً.
احتَضنتُه بين يديها لدقيقة كاملة أو تزيد، لم يصرخ، لم يتحدث كالعادة وكأنّ كل شيء كان مهيئاً لها تلك اللحظة حتى تعي فكرةً قبل فوات الأوان.
احتَضنتُه كما لم تفعل من قبل!
كانت حرارة دموعها تبلل طرفاً من كتفه لكنه لم يشتكِ أو يتذمر على غير العادة!
تعثرت في عينيه، ابتسمت له، ثم بدأ يتحدث ويسأل ببراءته التي طالما أسرتها.
تلك الدقيقة غيّرت شيئاً في تفكيرها للأبد..
قبل أن تمسكه بدقائق كانت تحمد الله على كل حال، لم يكن كأي دعاء رتّلته فهذه المرة كان نابعاً من قلبها ثم احتضنته وأدركت أن كل النعم بمافيها هُوَ، يمكن أن تذهب مابين غمضة عين وانتباهتها..
لاشيء تخشاه في هذا العالم أكثر من فقدها لأحد أحبابها. هذا الخوف الذي تذبل معه في كل يوم لأنها لا تحتمل توابع الفكرة.
لو أنّ العالم أدرك ماشعرت به في تلك الدقيقة لما كان هناك متجبرون أو ظلمة لأنهم سيكونون على يقين حاضر بأنّ كل شيء مصيره للزوال!
أرادت أن توصل هذا المعنى لكل من تعرف، أرادت أن تصرخ به بأعلى صوتها لكنها لم تستطع! وحتى وإن فعلت فلن يجدي نفعاً لأنّ الانسان يجب أن يعيش التجربة حتى يدرك معنى قوياً كهذا ولربما يعرفه الكثيرون لكنهم لم يجرّبوه مثلها.
تلك الدقيقة جعلتها تشعر بالفضل لكل تلك الأيام والمحن التي مرت بها والتي ربما أصّلت شيئاً مختلفاً في طريقة تفكيرها ونظرتها للأمور جعلتها تقرؤ بين السطور وتُحس شيئاً لا يُعير أكثر الناس له أدنى انتباه.
تأملت في حالها وحال من عرفت. يعيش الناس ربما في بيت واحد لكنهم يخوضون تجارب مختلفة تماماً وتتكون لهم تبعاً لذلك شخصيات ووجهات نظر لاتشبه بعضها وقد تتعارض في كثير من الأحيان. كلّ تجربة هي قدر الله الذي يهيئنا لمستقبلٍ لانعرفه، وكأنّ مامرّ من حياتنا هو معسكر تدريبي لما سيأتي بعده، وكأنها مراحل نجتازها لنتأهل لما بعدها..
ولو عاش انسان آخر في وضعك الراهن دون أن يكون له خلفيتك الماضية فلن يتحمّلها ربما أو ربما ينسحب ويتذمر لأنه لم يتوقعها.
تأملت في هذه التقلبات التي تمر بها مؤخراً، اعترتها رعشةٌ مما سيأتي، مما تخبّئ لها الأيام من أحداث. لم تعرف كيف تُطمئن نفسها، لم تعرف إن كان بامكانها أن تهربَ من هذه الأفكار، أن تتخلص منها وتريح عقلها الذي لايتوقف مطلقاً عن التفكير!
هذه الأفكار كأغنيةٍ علقت في عقلك، ترددها حتى تستولي عليك، تصبح وأنت تترنم بها ثم تصل لمرحلة تريد اخراجها من ذاكرتك دون جدوى! حتى تمسي وأن تلعنها.
لو كانت هذه الأفكارُ خرساء لكان الأمر أهون، لكنّها تثرثر طوال الوقت. تحاول أن تصرخ، تريد صوتاً أعلى منها، تُسرّع من خطواتك، تركض، تبتعد قدر الامكان، تصرخ بصوتٍ أعلى. دون جدوى.
تركض بسرعة أكبر، تضع سمّاعة في أذنك، تستمع لأي شيء، لايُهمّ مايكون المهم أن له صوتاً أعلى من الأفكار في رأسك، تردد الكلمات بصوت مرتفع. دون جدوى!
تجلسُ يائساً في النهاية، يظنّ من حولك أنّك مجنون، لكنّ الحقيقة أنّك طبيعيّ جداً، ورغم أنّ الجميع قد يكون مكانك الآن إلاّ أنّ أحدهم لايجرؤ على الاعتراف بذلك.
تجلس يائساً، تتأملّ حالك. تنهار بالبكاء، تنهار دون مقدمات. دمعاتٌ متتالية تنهمر من عينيك دون ارداتك، دون أن تطلب إذناً! وفجأة تجد نفسك تشهق بكاءً حاراً وتتمنى لو ينزل المطر الآن في هذه اللحظة لتتمكن من طمس وجهك بين قطراته.
لكنّ المطر لم ينزل ودموعك لم تتوقف.
تأخذ نفساً عميقاً، تعيدُ لملمة أشتاتك وتنطلق من جديد وكأنّ شيئاً لم يكن. يقابلك صديق قديم في الطريق تضحك له وتدردش وكأنك غيرُ الشخص الذي انهار قبل لحظات. تكمل حياتك على هذا النحو بصورة علّق عليها أحدهم مرةً بأنها هستيرية.
لم تكن ليلتها مختلفة عن هذه الرواية، شيء هستيريّ لم تفهمه بالضبط، كان أعمق منها، وأكبر من أن تشرحه لأحد. تلك الليلة أدركت أننا حصيلة مانختبر، انتابها احساس بأنّ ماتمر به يحمل غداً جميلاً، لم يكن احساساً صادقاً لكن كان عليها أن تتشبث به بكل قوتها حتى تستطيع أن تعيش للغد. ارتعشت مرةً أخرى لكنّ هذه الرعشة لم تشبه سابقتها.
تمتمت بقناعة تامة: لاشيء وليد الصدفة..
تمت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق